السبت، 7 يناير 2012

لغز المسيحية ( مقدمة) 1- نشأة الفكر ومنبعه

مقدمة
  لم يتمكن غير المسيحيون من معرفة الأسرار التى تحويها المسيحية مهما بالغوا فى دراستها والوقوف عن كثب منها .
فهى تتألف من مجتمعات بشرية  تتوافر فيها صلابة غير متوقعة فى ذهن كل من يظنها مجرد مجموعة من الأفكار المتداولة مثل معظم الأديان التى عرفتها البشرية
.

تلك الصلابة التى أثبتت وجودها وبقائها على مر القرون ، فى مختلف بقاع الأرض وأنتشرت بواسطة أحدعشر رجلآ من حواريى المسيح بعد أنتحار يهوذا الذى كان بمثابة الحوارى الثانى عشر عقب قيامة المسيح بسبب أحساسه باليأس من رحمة الله تعالى ، حيث قام بتسليم المسيح عليه السلام لليهود مؤيدين بقوة الجنود الرومان الذين صلبوه ، فقد أنتابه الشك فى أيمانه به - ذات مرة - قبل تآمره عليه ، فباعه ببضعة دراهم ، وسمح لأولئك الذين كانوا يكرهونه ويحقدون عليه أن يستخدموه كمرشد مندس بين الحواريين لتسهيل تسليمه للسلطات.
   وعندما أكتشف أنه خسر مكانته بخيانته قام بشنق نفسه ،
ويخبرنا بهذه المعلومة سفر أعمال الرسل على لسان بطرس ، كبير الحواريين ، عندما يقول فى 1 : 15 - 19 15وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ قَامَ بُطْرُسُ فِي وَسْطِ التَّلاَمِيذِ، وَكَانَ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ مَعًا نَحْوَ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ. فَقَالَ: 16«أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي سَبَقَ الرُّوحُ الْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ، عَنْ يَهُوذَا الَّذِي صَارَ دَلِيلاً لِلَّذِينَ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ، 17إِذْ كَانَ مَعْدُودًا بَيْنَنَا وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ فِي هذِهِ الْخِدْمَةِ. 18فَإِنَّ هذَا اقْتَنَى حَقْلاً مِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ، وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ انْشَقَّ مِنَ الْوَسْطِ، فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا. 19وَصَارَ ذلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ، حَتَّى دُعِيَ ذلِكَ الْحَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ «حَقَلْ دَمَا» أَيْ: حَقْلَ دَمٍ.

وكان الناس الذين يوجه لهم بطرس خطابه من بين المعاينين لتلك الأحداث ، وظل بعضهم حيآ حتى تمت كتابة هذا السفر بجملته ل " ثاوفيلوس "أحد كبار المسئولين فى الحكومة أثناء حكم "دومتيانوس قيصر 81 - 96  م " ، وهذا متبت فى سجلات الدولة الرومانية وتاريخها ، حيث كان سيحاكم " بولس الرسول " بتهمة التبشير بالمسيح .
 ويرجح الثقاة أن تاريخ كتابته كان قبل عام 90 م
.

ولم يكن الكلام الذى تفوه به بطرس فى تأريخه لما حدث للحوارى الثانى عشر" يهوذا " مجرد تذكير بحادث رآه جميع من سمعوا وعاينوا ، وأنما كان هذا الحدث مسجل فى النبوات على فم النبى داود فى زابوره( المزامير ) 109  : 8 حيث قال :لِتَكُنْ أَيَّامُهُ قَلِيلَةً، وَوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ
وكان لزامآ على الأحد عشر أن ينتخبوا واحدآ مكانه وكان أسمه " متياس " الذى أنضم أليهم للتبشير بالمسيحية ، وكانوا عزلآ مستضعفين ، لا يملكون المال ولا  أى  منصب من مناصب الدولة الرومانية ، ولكن وحدة العالم القديم تحت سلطة الدولة الرومانية حينئذ ، ساعدتهم ، كما أضطهدتهم فى الوقت ذاته ، فبينما كان المهاجمون للمسيحية ينجحون من آن لآخر فى أثارة السلطات الرومانية ضد المسيحيين ، كانت تتوافر فى الوجه الآخر فرصة لآخرين ، من الهروب  داخل حدود تلك الدولة المترامية الأطراف ، وكانوا يستخدمون اللغة "اليونانية الكوينى" التى كان يتكلم بها عموم الناس المثقفين فى كافة أنحاء الأمبراطورية الرومانية ، فسهلت تلك اللغة الموحدة مهمتهم فى التبشير، كما كان السلام المحروس بالحاميات الرومانية المدججة بالأسلحة لتأمين الطرق المؤدية لكافة أنحاء الأمبراطورية ، لحفظ الأمن وقوافل الجند والساسة عند تنقلهم من مكان لآخر ، سبيلآ لحماية هؤلاء الهاربين.
كانوا نفرآ قليلآ ، والعالم يتبع الغالب لا المغلوب، فكيف نجح هؤلاء فى نشر رسالة بخصوص مسيح مصلوب ؟ أتباعه ضعفاء ؟ وكيف تحمل من تبعهم وآمن برسالتهم عناء الأضطهاد؟.
لقد بلغ الأمر بالمسيحية فى القرون الأولى للميلاد أن أعتبرتهم الدولة الرومانية بادىء ذى بدء طائفة من اليهود ، فكانوا من بين الذين أحرقتهم السلطات الرومانية والغوغاء  لأضاءة شوارع روما فى زمن " نيرون " ، وطردوا مع اليهود من روما بعد ذلك ، ولكنهم سرعان ما عادوا ، لنشر الرسالة من جديد .
كان على كل مواطن رومانى أن يقدم ذبيحة للأمبراطور فى هيكله ، تلك الهياكل التى كانت قد أنتشرت فى كل أصقاع الأمبراطورية ، وأن يحمل شهادة تدل على وفاءه بهذه الذبيحة ،لأثبات ولائه للأمبراطور ، فلا يعد خائنآ ، وقد رفض المسيحيون القيام بهذا لأن هذه السماحة الرومانية ، التى كانت روما تدعيها - حيث كانت تترك المواطنين يعبدون وفق عقيدتهم بحرية خالصة طوال العام ما عدا يوم عيد جلوس الأمبراطور - حيث يسجدون للأمبراطور أو لتمثاله فى هيكله ، على يد كاهنه ، الذى يعطيهم الشهادة التى تضمن لهم الأمان وحرية العبادة باقى أيام السنة  ، أما المسيحيون فيرفضون عبادة الأمبراطور ولو ليوم واحد فى السنة!!!!!!!
والجدير بالذكر أنه تم العثور فى حفائر الفيوم على شهادات كان يعطيها الكهنة بهذا الخصوص ، للشخص الذى يدفع لهم المقابل ، سواء بتقديم الذبيحة والعبادة أو بالمال .
ومع ذلك فقد كانت حياتهم مهددة من السلطات كل ساعة من ساعات السنة بطولها .
لماذا أختاروا المسيحية ؟ ولماذا أستمروا فيها
رغم كل هذا العناء ؟ ولماذا أنتشرت المسيحية كأنتشار النار فى الهشيم فى كل أنحاء الأمبراطورية ؟ ولماذا أستمرت حتى فى البلاد التى كانت تنظر للمسيحية نظرة دونية ، وتعامل المسيحيين معاملة غير عادلة حتى هذا اليوم ؟
ما هو اللغز فى المسيحية الذى لم يتوصل له حتى كل من حاول دراستها ؟

أليكم اللغز :
لغز المسيحية
(1) نشأة الفكر ومنبعه

أن السبب الأصيل الذى يمنع غير المسيحيين من فهم المسيحية هو : أنهم يبحثون فيها ، وهم يظنون أنها ديانة كسائر الديانات ، أساسها مجموعة من المبادىء والعقائد والتشريعات والتقاليد ... ألخ
لكن المسيحية لا تقوم على ذلك أطلاقآ بل كانت المبادىء والعقائد والتشريعات والتقاليد نتيجة للمسيحية وليست منشئة أو أساسآ لها .
ففى كل الديانات تمثل المبادىء والعقائد والتشريعات البدايات الحقيقية ، أو الأوليات الأساسية التى يتكون منها الدين ، فمتى توفرت تلك تمكن الفرد الذى يصل للقناعات بتلك المبادى والعقائد والتشريعات أن يقول فى الختام أنه صار ملمآ بالدين الى الدرجة التى تسمح له - متى أقتنع بتلك المعطيات - من أعتناقه ، لكن المسيحية شىء آخر
.

لذلك تجد الكثيرين عبر العصور ومن مختلف درجات التعليم يحاولون البحث فى المسيحية ، ومتى أعجبتهم المبادىء والعقائد والتشريعات قد يصرحون بأعجابهم الشديد بها لكنهم فى أغلب الأحوال لا يستطيعوا أن يكونوا مسيحيين فعلآ ، اللهم ألا فى حالات قليلة ، فيها يدرك هؤلاء ما هو ليس موجود فى الدراسة النظرية ، فيأتون أليها قانعين أو مؤمنين ، بينما تجد على الجانب الآخر من لا تروقه مبادئها أو عقائدها أو تشريعاتها فيبادر بالهجوم بحديث يظن أن حديثه الذى يظن أنه منطقى يجب أن يكون مقنعآ للمسيحيين ، لكن كل مسيحى لديه قناعة خاصة ، من نوع خاص ، لم يتمكن هو من أدراكه ، هو المقنع وراء كل تلك الأمور التى يظنها جديرة بالنقد ، وهذا هو لغز المسيحية .
فلو تمكن العالم من حرق كل كتب العهد الجديد التى كتبت بعد ميلاد المسيح ، فى كل لغات الأرض ، وتأكد محو كل ذلك من الوجود تمامآ ، ستظل المسيحية باقية ، فكل ديانة تعتمد على كتاب كمصدر ، بينما كان العهد الجديد ذاته هو نتاج للمسيحية وليس منشئآ لها ، فسوف تكون خلاصة ما كان يوجد به ، متواترة فى أقوال وعظات الآباء ، ومسطرة فى العهد القديم أصولها ، فى صورة نبوات عن المسيحية والمسيح .
فالمسيحية عندما تبلغ وتخبر وتعلم أتباعها بأن النبوات تؤيدها ، يجد المسيحى هذا حادث فعلآ بل يكون قد سبق له قراءة ومطالعة كل تلك النبوات .
حتى فى العصر الأول المبكر للمسيحية ، حيث لم يكن متيسرآ الحصول على العهد الجديد مجمعآ فى كل مكان - فى زمان كتابته مثلآ - حيث كان كل كتاب معين موجه لمكان معين ، وغير متوافر فى المكان الآخر ، حتى فى ذلك الحين ، كان المسيحيون يعرفون المسيحية بحق ، رغم عدم توافر العهد الجديد كله ، أو الأسفار السبعة والعشرون الأخيرة فى الكتاب المقدس والتى تبدأ بقصة ميلاد المسيح فى الأنجيل وتعاليمه وحياته وشرح العقائد فى ضوء الفكر المسيحى
، ومع ذلك فقد كانت المسيحية تنتشر فى كل مكان بنفس النسق الموحد لها ، دون الحاجة لتكامل وجود كل تلك الكتابات ، فها هو بطرس يكتب فى رسالته الثانية 1 : 19 ، 20
 
P19Pوَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ، P20Pعَالِمِينَ هذَا أَوَّلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ. P21Pلأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.
وكان بطرس يكتب رسالته تلك قبيل نهاية القرن الأول الميلادى ومن آسيا الصغرى ، حيث لا يفترض أن يكون فى هذا المكان وجود للعهد الجديد مجمعآ ، بل ربما لم يكن من العهد الجديد ذلك فى هذا المكان بالذات ، وفى هذا التاريخ غير رسالته تلك ، لذلك يجمع علماء الكتاب أن ما كان يقصده  ب "الكلمة النبوية " أى "العهد القديم " .
أرأيتم كيف كان العهد القديم فقط بدون العهد الجديد كافيآ لتوصيل الأيمان المسيحى ؟
أذآ ما دام الكتاب ليس هو الأساس فما هو الأساس ؟
ان كون الكتاب نفسه ليس أساسآ ، يجعل من معرفة غير المسيحيين للمسيحية أمر صعب ، ليس ذلك فحسب ، بل يعطى المسيحية مناعة قوية مضادة لكل هجوم فكرى ضدها ، فكون المهاجمين للمسيحية لا يدركون أسسها ، فهم بالتالى غير قادرون على النيل منها ، ويضيع تركيزهم على نقاط يظنونها ضعفآ أدراج الرياح ، وأذا بهم بعد الهجوم الشرس يفاجئون بأنهم ، لم يهدموا المسيحية بل ربما أمدوها بأسباب للقوة أكثر من ذى قبل .
ويكشف فى كورنثوس الأولى شيئآ من هذا السر ، أو الأساس الذى بنيت عليه المسيحية ، عندما يقول فى 12 : 3 :-

 3لِذلِكَ أُعَرِّفُكُمْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِرُوحِ اللهِ يَقُولُ: «يَسُوعُ أَنَاثِيمَا». وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ:«يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ.( كلمة أناثيما أى مرفوض ومراد بحديثه أنه لا يوجد أحد يتكلم - وقد تحكم فيه روح الله - يستطيع أن يرفض المسيح ، ولا يستطيع بالتالى أى شخص من القول بأن المسيح هو رب ألا بواسطة تحكم الروح القدس على أفكاره )
أذآ الروح هو الأساس
.
والروح هو الله .
والله روح.
فمن يستطيع أن يحارب الله؟
الروح هو الذى يوفر القناعة الكاملة بالمسيحية ، فما جدوى الكلمات أذآ ؟ وكيف يقف المنطق البشرى حائلآ دون هذا التدفق القوى، لشحنات الثقة الربانية العلوية التى تتدفق ألى اليقين البشرى الداخلى الغير منظور للغير ، كيف يمكن قطع أوصال هذا اليقين ؟
المسيحية أذآ ليست ديانة بالمفهوم الذى أعتاده الأنسان عند بحثه وأستقصائه عن الديانات . ويقول المسيح نفسه عن نفسه فى يوحنا 10 : 14 - 18 :-

14أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي، 15كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ. 16وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ. 17لِهذَا يُحِبُّنِي الآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا. 18لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا. هذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي».
وهو هنا يصف نفسه بأنه راعيآ صالحآ يعرف بصفة شخصية تابعيه وأن الله بصفته هو مصدر رسالته ( وهذا هو معنى كلمة الآب أى المصدر او النبع ) الله المصدر يعرف المسيح والمسيح يعرفه ، والمسيح يضحى من أجل تابعيه ( الذين يشبههم بالخراف حيث شبه نفسه بالراعى ) ، وأن له أتباع آخرين لا ينتمون لهذا المجتمع الذى يوجه كلامه أمامه ، وأنه من المحتم له أن يوصل تلك الرسالة ( أو صوته ) لهؤلاء كذلك ، فينضم هؤلاء له ، ويكونون مع سامعيه وناظريه - الذين كانوا أمامه فى ذلك الحين و فى ذلك المكان -  فيكون كل هؤلاء معآ رعية واحدة ، وهذا هو سر تفضيل الله ( المصدر أو النبع ) له ، لذلك فروحه أو حياته لا سلطان عليها من أحد ، بل أعطى الآب ( الله المصدر أو النبع ) له هذا السلطان عليها .
 ليس ذلك فقط بل يشرح كذلك أستحالة ضلال أحد هؤلاء الذين يدعوهم بصفة شخصية معللآ ذلك بما قاله فى 10 : 27 - 30 :-
 27خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. 28وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. 29أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. 30أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ».ومفاد قوله هنا أن تابعيه يسمعون صوته ، وأنه يعرفهم ، وهو يعطيهم بالتالى حياة دائمة أبد الدهر ، تستمر حتى بعد وفاة الجسد ، ولا يستطيع أى كائن مهما كان أن يخطف هؤلاء منه ومن معرفته ، فالله المصدر قد أذن بتسليمهم له ، وهو كمصدر أعظم من الجميع لأنه كآب ( أى كمصدر أو نبع ) هو الخالق والمصور الذى لا يتسنى لأحد من مقاومة مشيئته ، ويختم تعبيره بقوله أنه هو والمصدر واحد .
ويحتار حقآ أى أنسان من محاولة فهم ذلك ويحاول أدراك ذلك المعنى ، ولكن أدراك هذا يتم بشكل يسير لكل من سمع صوته وعرفه ، لكل من آمن به بواسطة الروح الذى لا يزال يعمل ويتعامل مع كل هؤلاء الذين دعاهم أليه فى كل زمان ومكان على أرضنا .
ويفصح الكتاب كذلك عن هذا السر العجيب بالنسبة لغير المسيحيين من الباحثين الذين لا يستطيعون فهم معناه عندما يقول فى أفسس 1 : 4 - 11

 4كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، 5إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، 6لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ، 7الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ بِدَمِهِ، غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، 8الَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ، 9إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، 10لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ 11الَّذِي فِيهِ أَيْضًا نِلْنَا نَصِيبًا، مُعَيَّنِينَ سَابِقًا حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ،
وفى هذا النص يصرح بأن الله قد أختارنا منذ الأزل - أى قبل خلق العالم - لكى يجعل منا مختارين للأيمان به ، حيث نبدو فى عينيه بسبب محبته أننا بلا لوم أو ذنب ، حيث عيننا لنكون أبناء له من خلال تبنيه لنا ،  وكانت الواسطة التى حققت هذا التبنى هى المسيح نفسه ، بموجب أرادة الله الآب ( أى المصدر أو النبع )  فقد أستخدمه الله متجسدآ لفدائنا ، ومنحنا الحكمة والفطنة التى تؤهلنا لمعرفة مشيئته بخصوصنا ، حيث لخص الله مقاصده فى البشرية فى حياة المسيح نفسه ، ومنح للمؤمنين به نصيبآ معه فى العالم الآخر، وفى نفس الوقت عين لنا أعمالآ وأهدافآ معينة ننجزها بواسطته على أرضنا .
وكمثال لما ورد فى نبوات العهد القديم عن تلك الفترة التى تنبأ عنها ، حيث سيسود فيها الفكر المسيحى بين أمم عبد أجدادهم الأصنام فى السابق ( حيث كان النبى الذى كتب هذه النبوات يعيش ) ، ويرمز لهم ب " العاقر" ( أى السيدة التى ليس لها قدرة على الأنجاب حيث كان فى عهده الأمم عبدة الأصنام لا ينجبون أولادآ مؤمنين ) فسوف ينتشر نسلآ يصنعه الله لتلك الأمة العاقر ،  فى كل مكان فى الأرض  ، يدعوهم الله ويمكن لهم الحماية والأستمرار كما جاء فى أشعياء الفصل الرابع والخمسون حيث يقول :-

«تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. أَشِيدِي بِالتَّرَنُّمِ أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَمْخَضْ، لأَنَّ بَنِي الْمُسْتَوْحِشَةِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي ذَاتِ الْبَعْلِ، قَالَ الرَّبُّ. 2أَوْسِعِي مَكَانَ خَيْمَتِكِ، وَلْتُبْسَطْ شُقَقُ مَسَاكِنِكِ. لاَ تُمْسِكِي. أَطِيلِي أَطْنَابَكِ وَشَدِّدِي أَوْتَادَكِ، 3لأَنَّكِ تَمْتَدِّينَ إِلَى الْيَمِينِ وَإِلَى الْيَسَارِ، وَيَرِثُ نَسْلُكِ أُمَمًا، وَيُعْمِرُ مُدُنًا خَرِبَةً. 4لاَ تَخَافِي لأَنَّكِ لاَ تَخْزَيْنَ، وَلاَ تَخْجَلِي لأَنَّكِ لاَ تَسْتَحِينَ. فَإِنَّكِ تَنْسَيْنَ خِزْيَ صَبَاكِ، وَعَارُ تَرَمُّلِكِ لاَ تَذْكُرِينَهُ بَعْدُ. 5لأَنَّ بَعْلَكِ هُوَ صَانِعُكِ، رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ، وَوَلِيُّكِ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ، إِلهَ كُلِّ الأَرْضِ يُدْعَى. 6لأَنَّهُ كَامْرَأَةٍ مَهْجُورَةٍ وَمَحْزُونَةِ الرُّوحِ دَعَاكِ الرَّبُّ، وَكَزَوْجَةِ الصِّبَا إِذَا رُذِلَتْ، قَالَ إِلهُكِ. 7لُحَيْظَةً تَرَكْتُكِ، وَبِمَرَاحِمَ عَظِيمَةٍ سَأَجْمَعُكِ. 8بِفَيَضَانِ الْغَضَبِ حَجَبْتُ وَجْهِي عَنْكِ لَحْظَةً، وَبِإِحْسَانٍ أَبَدِيٍّ أَرْحَمُكِ، قَالَ وَلِيُّكِ الرَّبُّ. 9لأَنَّهُ كَمِيَاهِ نُوحٍ هذِهِ لِي. كَمَا حَلَفْتُ أَنْ لاَ تَعْبُرَ بَعْدُ مِيَاهُ نُوحٍ عَلَى الأَرْضِ، هكَذَا حَلَفْتُ أَنْ لاَ أَغْضَبَ عَلَيْكِ وَلاَ أَزْجُرَكِ. 10فَإِنَّ الْجِبَالَ تَزُولُ، وَالآكَامَ تَتَزَعْزَعُ، أَمَّا إِحْسَانِي فَلاَ يَزُولُ عَنْكِ، وَعَهْدُ سَلاَمِي لاَ يَتَزَعْزَعُ، قَالَ رَاحِمُكِ الرَّبُّ.
11«أَيَّتُهَا الذَّلِيلَةُ الْمُضْطَرِبَةُ غَيْرُ الْمُتَعَزِّيَةِ، هأَنَذَا أَبْنِي بِالأُثْمُدِ حِجَارَتَكِ، وَبِالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ أُؤَسِّسُكِ، 12وَأَجْعَلُ شُرَفَكِ يَاقُوتًا، وَأَبْوَابَكِ حِجَارَةً بَهْرَمَانِيَّةً، وَكُلَّ تُخُومِكِ حِجَارَةً كَرِيمَةً 13وَكُلَّ بَنِيكِ تَلاَمِيذَ الرَّبِّ، وَسَلاَمَ بَنِيكِ كَثِيرًا. 14بِالْبِرِّ تُثَبَّتِينَ بَعِيدَةً عَنِ الظُّلْمِ فَلاَ تَخَافِينَ، وَعَنِ الارْتِعَابِ فَلاَ يَدْنُو مِنْكِ. 15هَا إِنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ اجْتِمَاعًا لَيْسَ مِنْ عِنْدِي. مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْكِ فَإِلَيْكِ يَسْقُطُ. 16هأَنَذَا قَدْ خَلَقْتُ الْحَدَّادَ الَّذِي يَنْفُخُ الْفَحْمَ فِي النَّارِ وَيُخْرِجُ آلَةً لِعَمَلِهِ، وَأَنَا خَلَقْتُ الْمُهْلِكَ لِيَخْرِبَ.
17«كُلُّ آلَةٍ صُوِّرَتْ ضِدَّكِ لاَ تَنْجَحُ، وَكُلُّ لِسَانٍ يَقُومُ عَلَيْكِ فِي الْقَضَاءِ تَحْكُمِينَ عَلَيْهِ. هذَا هُوَ مِيرَاثُ عَبِيدِ الرَّبِّ وَبِرُّهُمْ مِنْ عِنْدِي، يَقُولُ الرَّبُّ.
فاللغز ببساطة هو فى الأساس الروحى للمسيحية ، ومن هو الفاعل الحقيقى الذى يقوم بنشرها ، فلا يعقل أن يكون بقوة فئة من الضعفاء تنتشر، ولا بمجرد مبادىء نظرية مدعومة بواسطة أى قوة معروفة بين البشر، بل يكمن اللغز فى مصدرها الألهى الذى أختبره كل من قبل المسيحية ، خصوصآ لو كان مولودآ فى بيت غير مسيحى ، فكل هؤلاء عند سؤالهم - بعد أيمانهم - يفاجأ من  يحاكمهم على قبول هذا الفكر بأن الذى دخل للمسيحية طلب بأخلاص من الله أن يكشف له الحقيقة ، وبعد ألحاح وجدية تراءى له المسيح ، أو ألقى الروح فى روعه قناعة كافية ، لا تدانيها أى قناعة بأى فكر من أفكار البشر.

د . ق . جوزيف المنشاوى .


ليست هناك تعليقات: