السبت، 7 يناير 2012

لغز المسيحية 2- ممارسة الفكروصداه

لغز المسيحية
(2) ممارسة الفكر وصداه
يتخيل الرسام فى تلك الصورة حادثة توزيع التلاميذ للمائدة التى كانت تتكون من خمسة أرغفة وسمكتين (وهناك أفكار لدى بعض مدارس التفسير حول رمزية هذا الرقم ) ، ولكن على وجه العموم تبرز هذه الحادثة معنى جليل من معانى الحب العملى الذى علمه المسيح لأتباعه وأرساه .
ومرة أخرى أكرر كما قلت من قبل ، لم يكن تعليم الحب فى المسيحية من قبيل تطبيق لمبادىء نظرية ، أو محاولة لتقليد المسيح كمثال - مع أنه مثال صالح - وأنما تأتى تلقائيآ لمن يؤمنون بالفعل بالمسيحية ، ويبدو هذا من أختبارات الكثيرين الذين آمنوا ، فكما أتفقنا على أن الآيمان بالمسيحية هو أختبار روحى ، ويقين يسكن جوانح المؤمنين ، لأسباب تتعلق مباشرة من التعامل مع الله وأعلاناته للأنسان ، فها هو واحد من أولئك المؤمنون ، اسمه بولس وهو من كتاب العهد الجديد يكتب قائلآ:-
22وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ 23وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ. 24وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ. 25إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ، فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ. 26لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضًا.
فالروح هو الذى يعلن القناعة بالمسيح  فى داخل الأنسان ، بناء على أختيار الله له ، ليكون مؤمنآ هو نفسه ،  فيثمر فى داخل المؤمنين بأثمار واضحة ، وقبل أختبار بولس هذا يقول المسيح فى متى 7 : 15 - 19  : -
«اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! 16مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟ 17هكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَارًا جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَارًا رَدِيَّةً، 18لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا رَدِيَّةً، وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا جَيِّدَةً. 19كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. 20فَإِذًا مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.
وفى هذا الجزء يعلم المسيح تابعيه كيف يميزون بين المدعى الكاذب والمؤمن الحقيقى ، فهو يشبه الكاذب أنه كشجرة الشوك التى تنتج بالطبع شوكآ لا تستطيع أن تنج عنبآ أو تينآ ( ونعرف أن العنب والتين كانا رمزين لشعبين هما العهد القديم والعهد الجديد فهو أحيانآ يرمز لشعب العهد القديم بالتينة والعهد الجديد بالتينة المثمرة والمسيح مع شعب العهد الجديد بالكرمة الجديدة على غرار كرمة الرب أى شعبه الذى نقله من أرض مصر ) ويجمل قوله بحكمته الخالدة بأن الشجرة الجيدة تصنع أثمارآ جيدة أى المؤمن له ثمر جيد واضح فى صفاته وخصاله وأما غير المؤمن فواضح كذلك من خصاله وصفاته السيئة .
فيجب أن ينعكس الأيمان تلقائيآ لممارسة راقية صداها العملى واضح .
أذآ هناك صفات تظهر بالضرورة على المؤمن ، ومنها المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والتعقل وعدم التغاضب والتقاتل ، هذه الصفات لا يفتعلها الفرد ، ولكنها تصير تلقائيآ منهاجآ للمؤمن ، يجد نفسه تميل تجاهها دون مشقة أو تكلف.

هذه الحقيقة كانت من بين أسباب ألتفات نظر مختلف المجتمعات للمؤمنين فشدت أنتباههم وجذبتهم للحوار النفسى الداخلى ، وجعلتهم يتلصصون على مجتمع الكنيسة فى القرون الأولى ، خفية أوعلانية حتى نشأ ما يقال عنه قداس طالبى الحقائق ، وهو جزء خاص بأرشاد الراغبين فى معرفة المسيحية.
كانت المجتمعات القديمة تذخر بالقسوة فى التعامل بين الأنسان وأخيه الأنسان ، حيث كانت الحروب التى تخلف الرق ، والأسترقاق ، والعبودية ، والقتل بلا هوادة ، حتى فى النزاعات الداخلية البسيطة ، بينما تميز المسيحيون بمحبتهم ، وبشاشتهم ، ومعاملتهم الحسنة ، ليس فقط لبعضهم البعض ، ولكن للجميع .
كانت المسيحية كالمغناطيس الذى يجذب الشعوب ، ويجعلها تحلم بأن تتحول مجتمعاتها ألى يوتوبيا أخلاقية راقية .
فمبدأ "أخوة جميع البشر" كان من بين المبادىء التى نادى بها ومارسها المسيحيون بالفعل ، وقد علمنا المسيح كيف يكون الفرد فى ذاته ، وفى حقيقة ما يقوم بعمله ، خير شاهد لجمال وروعة ذلك المبدأ الروحى ، الذى أسمته البشرية من بعد أسم المسيحية فقد قال فى متى 5 : 13 - 16 :-
13«أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ. 14أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، 15وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. 16فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.
وهو هنا يتحدث عن المؤمنين كملح ( قد يكون رخيص الثمن لكنه ضرورى جدآ ) وكنور للعالم ( وينبغى أن يكون نورآ فعالآ واضحآ ) ،  ثم وضع قاعدته الذهبية " لكى يرى الناس أعمالكم الحسنه " ( وهى التى رمز لها بالملح والنور ) "فيمجدوا أباكم الذى فى السموات" .
ويتدرج المسيح فى حديثه لكى يثبت أن مجرد المحاولة لأتباع الوصية النظرية ، غير كاف للوصول للأيمان الحقيقى ، الذى يريد أن يكون عليه المؤمنين به ، عندما يقول فى متى 5 : 43 - 47 ما يلى :-
«سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. 44وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، 45لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. 46لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ 47وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟ 48فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ.
فالمسألة اذآ  ليست فى وصية يحفظها البشر ، حتى ولو كانوا يحاولون تطبيقها ، لأن ما فى المسيحية يستحيل على الشخص العادى أن يطبقه ، فهو بالكاد يحب من يبادلونه الحب بينما يكره من يناصبونه العداء ، أما ما يريده المسيح من تابعيه هو أن تكون لهم طبيعة جديدة تختلف عن تلك الطباع المعتادة لدى البشر  ، فهو يتطلع لمحبة الأعداء ، وتمنى الخير لمن يتمنى لنا الشر ، وصنع الأحسان لمن يناصبنا العداء ، ويضرب مثلآ بالله سبحانه وتعالى ، حيث لا يفرق بين أنسان وآخر عندما يشرق بشمسه على الجميع ويهب المطر للكل ، فأن كمال الأيمان هو أن تحب عدوك وتسلم على من يعاديك وتتمنى له الخير.
وبالرغم من تلك الصورة الوردية التى قدمها المؤمنين من تلقاء ذواتهم بصورة طبيعية غير متكلفة ، كانت فى جانب سببآ لنشر المسيحية ، ألا أنها كانت على جانب آخر سببآ للمتاعب وللأضطهادات التى مارستها المجتمعات البشرية ، ولا تزال تمارسها على المؤمنين ، حتى يومنا هذا .
فلقد قام فى التاريخ أضطهادآ ، كان مبنيآ على أشاعة شاعت بواسطة غير المؤمنين ، قاموا بتأليفها آملين أن يقضى بها على المسيحية قضاءآ مبرمآ ، عندما سرت شائعة تقضى بأن المسيحيون يتزوجون أخواتهم ،  ويتخذون منهن زوجات ، وهو المعروف فى التاريخ بأسم أضطهاد سفاح القربى ، فقد كان ظاهرآ للعامة رفق معاملة الرجل المسيحى لزوجته ، ومناداتها يأخت فلانة ، على عكس الألقاب التى كان يفضل الرجل العادى أطلاقها على زوجته من قبيل الأحتقار ، وتفهم الزوجة ومحبتها لزوجها فلا تبدو وهى تصنع معه صنيعآ طيبآ أنها تفعل ذلك وفق أوامر صادرة منه ، بما لا يتفق مع ما يحدث بين غيرهم ، فى ذلك الوقت ( كان هذا فى زمن لم تتأثر فيه المجتمعات المسيحية بالتأثيرات التى تشبه بها الوارثون للمسيحية دون الأختبار الحقيقى لها ) وسقط كثير من المسيحيين فى تلك الأضطهادات قتلى ، وأصيب الكثيرين بينما بعد تحرى الحقيقة ، توقف الأضطهاد ، وتبارى الناس فى محاولة مجاراة المسيحيين فى أفكارهم ، وبالفعل أقبل كثير منهم للأيمان المسيحى الذى أعلنه الله لهم .

فالمسيحية الروحية كما أنها قناعة أعجازية يقوم بصنعها الله داخل المؤمنين ، فيها ممارسات عملية غير مفروضة بوصايا أو تعاليم ، حتى يكاد يكون الأمى الذى لا يعرف القراءة ولا الكتابة ويجهل تمامآ التعاليم نظريآ ، أكثر أظهارآ لتلك الصفات السامية فى ممارسته للمسيحية ، بصفات لها صدى مميز لا يتوافر لدى كثير من المثقفين الذين لم يعرف الأيمان طريقه لقلوبهم .
د. ق جوزيف المنشاوى.

ليست هناك تعليقات: